السلام عليكم
شرح قصيده لوحة
سبق المتنبي فلاسفة العدمية في قصيدته التي استهلها بعبارات تتواتر من جيل لآخر:
صحب الناس قبلنا ذا الزمانا** وعناهم من شأنه ما عنانا
وتولوا بغصة كلهم منـ ** ـه وإن سر بعضهم أحياناً
ربما تحسن الصنيع لياليـ ** ـه ولكن تكدر الإحسانا
وأتبعها بوصف شامل وصادق لأصول النفس البشرية:
وكأنا لم يرض فينا بريب الـ ** ـدهر حتى أعانه من أعانا
كلما أنبت الزمان قناة ** ركب المرء في القناة سنانا
ثم توجه إلى كل بني البشر شارحاً حقيقة بسيطة:
ومراد النفوس أصغر من أن تتعادى فيه وأن تتفانى
واستتدرك مستذكراً عمق شعوره بكرامته:
غير أن الفتى يلاقي المنايا ** كالحات ولا يلاقي الهوانا
وعاد ليؤكد حقيقتين بسيطتين أخريين:
ولو أن الحياة تبقى لحي ** لعددنا أضلنا الشجعانا
وإذا لم يكن من الموت بد ** فمن العجز أن تموت جبانا
وخلص أخيراً إلى جوهر الفلسفة العدمية:
كل ما لم يكن من الصعب في الأنـ ** ـفس سهل فيها إذا هو كانا
يقول العكبري في شرح البيت الأول: عناه يعنيه: إذا أتعبه وأهمه. والمعنى : يقول: قد صحب الناس زمانهم قبلنا، وأتعبهم في شأنه الذي أتعبنا . يريد أن كل الناس يهمهم الزمان.
ويقول العكبري عن البيت الثاني: الغصة: ما يتجرعه الإنسان من مرارات الزمان.
وسرّ: أفرح. وأحيانا: جمع حين، وهو الوقت.
يقول: صحبوا الزمان، ثم ماتوا بغصة، لم يبلغوا ما أملوا من الزمان، وان كان قد فرحهم حينا، فقد نغصهم أكثر مما فرحهم. والمعنى: يريد إن أحدا لم ينل مراده من الزمان.
ويقول العكبري عن البيت الثالث: الصنيع: الإحسان. والمعنى : يقول: الدهر إن أحسن أولا، كدّر وأساء آخراً، هذه عادته يعطي ثم يرجع، وإذا أحسن لا يتم الإحسان.
ويقول العكبري عن البيت الرابع: المعنى: قال أبو الفتح: هذا والذي قبله أحسن ما قيل في الزمان، وان طباعه الشر، وفعل الزمان منسوب إلى القضاء، فالزمان لا يفعل شيئاً، وإنما يفعل فيه، وكذا قولهم: يوم سعيد، فاليوم لا يوصف بسعد، وإنما يوصف به من يشتمل عليه اليوم. وقال الواحدي: يريد هو الذي أعان على الدهر، كأنه لم يرض بما يصيبني من محنه حتى أعانه علي.
ويقول العكبري عن البيت الخامس: السنان: زج الرمح الذي يطعن به. والمعنى: قال الواحدي: يقول : إذا ابتدر الزمان للإساءة بما جبل عليه، صارت عداوة المعادي مددا لقصده نحوك، فجعل القناة مثلا لما في طبع الزمان. والسنان مثلا للعداوة. وقال أبو الفتح والخطيب: الزمان إذا انبت قناة، إنما ينبتها بالطبع، ولا يشعر لأي شيء تصلح، فيتكلف بنو آدم اتخاذ القناة، توصلا إلى هلاك النفوس، فالزمان يفعل ولا يشعر ما يراد به. وهذا من كلام الحكيم: يقول: من صحة السياسة أن يكون الإنسان كلما ظهرت سنة عمل بها، بحسب السياسة .
ويقول العكبري عن البيت السادس: المعنى: يقول : الدنيا فانية، والمراد فيها فان، وهي اقل من أن يعادي بعضنا بعضا، لأجل مراد النفس وهو ذاهب فانٍ. وهذا نهي عن التحاسد والمعاداة، وفيه نظر إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم المجمع على صحته حديث انس وغيره"لا تدابروا، ولا تباغضوا، ولا تحاسدوا، وكونوا عباد الله إخوانا" وما أحسن هذا ! ولقد أحسن أبو الطيب في هذا المعنى. وهو من كلام الحكيم: ليس الحزم إفناء النفوس في طلب الشهوات، بل في درك العالم العلوي.
ويقول العكبري عن البيت السابع: كالحات: معبسات. والمعنى: يقول : لقاء الموت الكريه أهون من ملاقاة الهون ، لان الحر يرى الموت أهون عليه من الهوان. ولله دره - وما أحسن هذا ! وما أخفه على الألسنة ! فلا ترى أحدا يناله أدنى شيء إلا استشهد به.
ويقول العكبري عن البيت الثامن: المعنى: يقول: لو كان الجبان يسلم من الموت ويلقاه الشجاع، كان الشجاع ضالا في إقدامه، لأنه يتعرض للقتل، ولكن الحياة لا تبقى لشجاع ولا لجبان، بل الموت ينال الجميع.
والحكم التي ساقها كبير الشعراء هي:
-أن كل الناس يعانون في هذه الحياة وأيام المعاناة أكثر من أيام السعادة .
-أن الإنسان يساهم في شقائه ويساعد الدهر على صناعة الشقاء والحرب
-أن الشريف الشجاع يفضل الموت على الهوان
-إن الحياة لو تدوم لأحد لكان الشجاع أحمق بخوضه الأخطار لكن الكل ميّت
-ما دمت ستموت فلتمت شجاعاً خوّاضاً الوغى
-كل شيء يبدو للإنسان صعباً فإذا حصل يصبح سهلاً.
*** سر جمال القصيدة:
-اعلم بأن العربية لغة موسيقية لاتصافها بغزارة الأصوات الناتجة عن الحركات والتنوين وتنوع مخارج الحروف من شفوية إلى لثوية إلى جوفية إلى حلقية
والموسيقى الشعرية نوعان:
خارجية وهي موسيقى الوزن والقافية
وفي هذه القصيدة البحر هو الخفيف بحر يناسب الحكم لقصره
والقافية هنا ممدودة والمد مناسب لروح الأسف والحسرة التي تخيّم على القصيدة إذ هي تتناول الموت ،تماماً كما تتحسر النائحة بالمد .
-والموسيقى الداخلية :
وتنتج عن التناسب بين الحروف
وهنا نجد الكلمات :
عناهم وعنانا
نتعادى ونتفانى
تحسن والإحسانا
*** جمال القصيدة ناتج كذلك عن التصوير إذ جعل الشاعر الزمان صاحباً يعاني منه صاحبه يحسن الصنيع مرة و ويكدّر الإحسان مرات
وحين ينبت الدهر قناة يركب الإنسان فيها سناناً كناية عن تسعير الحرب
*** ومن الهام أن نلحظ أن من أهم
أسباب جمال القصيدة تعبيرها عن واقع الناس المعايش وملامستها همومهم بحيث يستمتعون بتردادها ولم يزالوا يحفظون أبياتها إلى اليوم